الميلاد العجيب
بقلم: القس/ جورج شاكر – راعي الكنيسة الانجيلية بسيدي بشر- الاسكندرية
يوجد العديد من النبوات التي سجلها الوحي المقدس في العهد القديم عن الميلاد، ومن هذه النبوات التي لها شهرة واسعة الانتشار تلك التي سجلها الوحي المقدس في سفر إشعياء 9: 6 التي نصها: “لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام” … ومن هذه النبوة نرى في مسيحنا الأمور الآتية
أولا: عجيبًا
يا للعجب! هل سمعتم من قبل عن عذراء وجدت حبلى من الروح القدس؟ لوقا1
نعم! إنها العذراء مريم، ذلك لأن المولود منها هو المسيح العجيب، الاله القدير… الذي تجسد بأسلوب يفوق الخيال
- عجيب في طبيعته: فوحده الذي له الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية، فهو إله تام، وإنسان كامل. لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة أو طرفة عين، اجتمعت فيه النعمة والحق، ووحده استطاع أن يتحدى الأعداء وبكل جسارة وقال لهم: من منكم يبكتني على خطية. يوحنا 8: 46
- عجيب في تعاليمه: فهو المعلم الصالح، انجيله وتعاليمه انتشرت في كل بقاع المسكونة بلغات ولهجات عديدة
- عجيب في اعماله ومعجزاته: التي لا تحصى ولا تعد، فلو كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة، هكذا سجل الوحي في يوحنا 21: 25
- وكم هو عجيب في محبته: “ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه.” يوحنا 15: 13. فلقد مات لأجل خطايانا واقيم لأجل تبريرنا. نعم، كان في تجسده عجيبًا وما زال إلى يومنا وإلى أن يجيء ثانية، عندما يدخل حياة أي إنسان يصنع فيها عجبًا
ثانيًا: مشيرًا
مشيرًا بمعنى هو صاحب المشورة الحكيمة والرأي السديد. فهو المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم، كولوسي 2:3، وعندما نعيش كأبناء الله ونستأسر كل فكر إلى طاعة المسيح نعرف كيف نتخذ القرار السليم في الوقت المناسب، “لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله.” رومية 8: 14
مشيرًا بمعنى المرشد لنا في دروب الحياة. فلقد تنبأ إشعياء عن المسيح بأنه “نور عظيم” فقال: “الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور.” إشعياء 9: 2. وأعلن سمعان الشيخ عندما حمله على ذراعيه في الهيكل بأنه “نور إعلان للأمم” لوقا 2: 32. ولقد قال الرب يسوع عن نفسه: “أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة.” يوحنا 8: 12. وقال: “أنا جئت نورًا إلى العالم وكل من يؤمن بي فلا يمكث في الظلمة.” يوحنا 12: 46. وفي هذا إعلان عن لاهوته، فالمسيح نور في طبيعته، لأن طبيعته القداسة والطهارة، ونور في تأثيره فأول تأثير للنور هو الإرشاد، فمن يسير في الظلمة يتخبط ويضيع في متاهات الحياة، ولكن من يمشي في النور لا يعثر. وكلمة الله هي سراج لأرجلنا ونور لسبيلنا، وشخص الرب يسوع هو الكلمة المتجسد، ولهذا فهو النور الذي يضيئ لنا الدروب التي نسلك فيها في ذي الحياة.
مشيرًا بمعنى الذي نطمئن إليه ونأتمنه على أسرارنا، فنفتح له قلوبنا، ونحكي له عن آمالنا وآلامنا، نعترف له بأحطائنا ونثق أنه “إن اعترفنا بخطايانا فهو آمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل اثم.” 1يوحنا 1: 9، ولا يعود يذكرها فيما بعد بل يطرحها في بحر النسيان
ومشيرًا بمعنى يعرض ولا يفرض علينا مشورته. أي نعم! هو خالقنا كما يذكر داود في مزمور 139: 13، “نسجتني في بطن أمي”. وكما يعلن إرميا 1: 5، “قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك”. وكما يقول بوبس: “لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع، لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها.” أفسس 2: 10. وبالرغم من كل هذا إلا أن الله يعطي مطلق الحرية أن نختار ما نشاء، فهو يعرض ولا يفرض. ولعل هذا ما نراه بوضوح في أمر خلاصنا، على سيبل المثال في رؤية 3: 20، “هانذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي.” هو لا يقتحم حياتنا بالقوة، لأنه يعطي الإنسان مطلق الحرية ليختار ما يشاء
ثالثًا: إلهًا قديرًا
يمكن ترجمة الكلمة العبرية: “إيل شداي” أي “الله القدير” وهي تفيد أن الله كلي القدرة أو كامل القوة. وقد شهدت معجزات المسيح عن قدرته وقوته وسيطرته وسلطانه. الوحي المقدس زاخر بالأمثلة والنماذج التي تبرهن وتدلل على أن المسيح هو الإله القدير
- فنرى في متى 9: 6، أن له القدرة على غفران الخطايا، فنراه يقول للمفلوج: “ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك” متى 9: 6
- له كل سلطان (قوة وقدرة) في السماء وعلى الأرض كما قال: “دفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض.” متى 28: 18
- إلهًا قديرًا: فنرى سلطانه على الطبيعة وهو ينتهر الريح، ويأمر المياه فتطيعه. لوقا 8: 25
- إلهًا قديرًا: رأيناه يقيم من الأموات ابن أرملة نايين، وابنة يايرس، ولعازر
- إلهًا قديرًا: له السلطان على إعطاء الحياة الأبدية، يوحنا 17: 2
وهكذا تحققت النبوة… إلهًا قديرًا
رابعًا: أبًا أبديًا
- من المعتاد أن يًطلق لقب (الأب) على الله الآب، ولكن في هذه الآية يلقب المسيح بأنه “أبًا أبديًا”. لم يكن أبونا الأول آدم أبديًا. وهذا اللقب يشرح ما عمله معنا المسيح في قصة الفداء، حيث دخل إلى الأقداس بذبيحة نفسه فأوجد لنا فداءً أبديًا، لم يعد هناك حجاب يفصلنا لكنه فتح الباب لنا إلى الأقداس، فأصبحنا نتقدم بثقة إلى عرش النعمة. عبرانيين 4: 16
- المسيح “أبًا أبديًا” بمعنى أنه يعتني بنا ويتراءف علينا ويعرف ظروفنا ويُقدِّر أحوالنا، “كما يتراءف الأب على البنين يتراءف الرب على خائفيه.” مزمور 103: 13. ولعل هذا يفسر لنا النداء الذي جاء في رومية 8: 15 – أخذتم روح التبني الذي نصرخ به يا أبا الآب
- أبًا: في اللغة السريانية كالأب في اللغة العربية، والحقيقة أن نداء “أبا الآب” باللغتين السريانية واليونانية
- أبًا أبديًا يمكن ترجمتها “أب الأبدية”. وقد قال النبي ميخا متنبئًا عن ولادة المسيح “مخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل” ميخا 5: 2. وقال الرب يسوع: “قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.” يوحنا 8: 58. النص اليوناني يستخدم صيغة المضارع لا الماضي، فهو لم يقل: “أنا كنت”، فلو كان للمسيح مجرد وجود سابق لا أزلي لقال: “قبل أن يكون إبراهيم أنا كنت”، لكن يسوع تحدث عن نفسه باستخدام تعبير “أنا كائن” دليل على سرمدية الوجود – الأزلية والأبدية
نعم، إن يسوع لا زمني، بمعنى لم يكن هناك وقت دخل فيه المسيح إلى حيز الوجود، ولن يوجد وقت سيتوقف فيه عن الوجود. لا نستطيع أن نقول عن يسوع “لقد كان”، بل يجب أن نقول دائمًا عنه أنه “الكائن”، الذي كان قبل الزمن وسيظل بعده، فهو دائم الوجود. إنه آب أبدي يتجاوز الزمن وهو مصدر للزمن
خامسًا: رئيس السلام
لقد ولد السيد المسيح في عصر كله حروب ومنازعات، في زمن يفتقد إلى الأمن والأمان. فلقد شهد القرن الأول الكثير من أعمال العنف. ولكن يوم ميلاده كانت أنشودة السماء: “….وعلى الأرض السلام…” لوقا 2: 14
في كل حياته رفض الرب يسوع استخدام العنف بكل أشكاله وألوانه. فلقد كان ملكوته روحيًا وليس جغرافيًا. فلم تكن هناك أي دوافع للحروب لأن المحبة الحقيقية لا تجبر أحدًا على شيء. ولهذا كان أسلوب المسيح هو أسلوب السلام الذي يأسر قلوب البشر وعقولهم بالمحبة، فلم يُشكِّل جيشًا، ولم يُعلن حربًا، ولكنه حارب الخطية والظلم والظلام من غير أن يمتطي جوادًا أو يرفع سيفًا ولا حتى صوتُا. لقد كان سيفه هو الحب ورمحه هو الوداعة وترسه هو التواضع وقوته في غفرانه. لم يفتح مدينة ولكنه فتح أعين العميان وآذان الصُم، كما فتح أبواب الأمل أمام البائسين واليائسين. لم يثير مشاعر البغضة والكراهية، ولم يحض أحدًا على أحد، لكنه شجع الجميع على الحب والتسامح بدون حدود، والعطاء والغفران بغير قيود
رئيس السلام بمعنى أنه صانع السلام. فلقد كان السلام الركيزة الأساسية في كل حياته. فلم يعلم تلاميذه أن يحملوا سلاحًا أو سيفًا، وإن كان مفهوم القوة ارتبط في ذهن البعض بالعنف والقتل وإراقة الدماء، لكنه يعلم أن الانتقام هو أول علامات الضعف، أما الغفران فهو من سمات القوة
رئيس السلام: فلقد جاء إلى أرضنا ليمنح عالمنا سلامه ويتحقق ما أعلنه ميخا: “لأنه الآن يتعظم إلى أقاصي الأرض….. ويكون هذا سلامًا.” ميخا 5: 4، 5
الدارس للكلمة المقدسة يدرك أن طبيعة ونوعية سلام المسيح هو سلام ينبع ويأتي من فوق، من الأعالي، من الله ولمجده
كلمة “سلام” التي ترنمت بها الملائكة في خلفيتها العبرية “شالوم” تأتي بمعنى الخلاص والمصالحة، أي عودة السلام بين الانسان والله من خلال عمله الكامل في المسيح يسوع (أعمال 10: 36، رومية 15: 15، أفسس 2: 17)، فسلام المسيح هو سلام للخليقة الجديدة والحياة الأفضل، هذا السلام أعظم من أي معاهدات صلح أو اتفاقيات سلام. إنه سلام يفوق كل عقل، سلام لا ينقص، ولا يسقط أبدًا، لأنه سلام يعيد صياغة حياة الإنسان نفسه من جديد. لذلك، فلا عجب إن كنا قد سمعناه قبيل انطلاقه من الأرض إلى العلاء كانت تركته لأتباعه “السلام”، إذا قال لهم: “سلامي أترك لكم، سلامي أعطيكم.” يوحنا 14: 27